الرئيسة \  واحة اللقاء  \  متاهة الفدرالية بين بلدين وفي زحمة الإنهيار 

متاهة الفدرالية بين بلدين وفي زحمة الإنهيار 

15.06.2021
وسام سعادة


الشرق الاوسط 
الاثنين 14/6/2021 
عندما أنشأ المستعمرون الفرنسيّون كيانَي "سوريا" و"لبنان الكبير" على أنقاض الولايات العثمانية، سعوا لتطوير نموذج فدرالي في الأولى، من خلال إقامة "المتحد السوري" عام 1922، وعاصمته – بالتناوب – كانت في البدء حلب. أما لبنان فاختاروا له نموذج الدولة المركزية. بخاصة بعد صرف النظر عن مشروع ضمّه للفدرالية السورية. 
في أقل الإيمان، لم يكن سهلاً على الفرنسيين حسم أيّ من المدينتين الكبريين، دمشق أم حلب، يفترض التضحية بوهجها لصالح الأخرى في عملية الهندسة الكولونيالية للكيان السوريّ العتيد. 
فولاية حلب العثمانية كانت بين الأكثر كوزموبوليتية، واختبرت تمازجاً اثنياً ولغوياً ودينياً يعدّ من بين الأكثر كثافة على مستوى الإمبراطورية. بين عرب وكرد وترك وتركمان وأرمن وروم أرثوذكس وكاثوليك وموارنة ودروز وعلويين ويهود. وهذه الولاية، المنشأة عام 1864 في ذروة عصر "التنظيمات" التحديثية، تشمل ما بات جزءاً من تركيا اليوم، أي عنتاب ومرعش والرها / اورفا والاسكندرون، بل أنها كانت تشمل في البدء أضنة أيضاً، ودير الزور. 
وبالنتيجة، عندما جرى الإبتعاد شيئاً بعد شيء عن الصيغة الفدرالية في سوريا، كان ذلك باتجاه إعطاء الأولوية للمركز الدمشقي. ودمشق كانت عاصمة ولاية سوريا، المنشأة عام 1865، والتي كان معظم الأردن بحدود اليوم، كما سهل البقاع، جزءاً منها. وهي حالة نادرة سمّى فيها العثمانيون ولاية بغير اسم مركزها. ومع اتصاف تلك الولاية بقسط وافر من التعددية الدينية، إلا أنّ اللون العربي كان مهيمناً عليها في العصر العثماني المتأخر، في مقابل غلبة التمازج الإثني العربي التركي الكردي الأرمني في ولاية حلب. 
في لبنان، واجه الفرنسيّون منذ انشاء كيانه مشكلة متسلسلة: الغلواء المارونية بأنّ الكيان الموسّع خارج نطاق مناطق كثافتهم السكانية هو "كيانهم" هم أولاً. وتأرجح الملل الأخرى بين تبرّمها من وجودها في هذا الكيان المفصّل لطائفة "مؤسّسة" وبين عملية التقبّل التدريجي لهذا الكيان، و"الإنخراط فيه" والاصطدام جراء ذلك بالغلواء المارونية مجدداً. 
بيد أنّ الفرنسيين لم يواجهوا في حالة لبنان "قصة مدينتين" على غرار ثنائية دمشق وحلب، ذلك أنّ ثنائية بيروت وطرابلس لها اعتبار مختلف. عندما كانت طرابلس الشام عاصمة لأيالة عثمانية، كانت بيروت لا تزال بلدة صغيرة من أعمال أيالة صيدا. وعندما أنشئت ولاية بيروت عام 1888، وأحتلت مكانتها في رهانات التحديث والتمدّن الأساسية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، كُتبت الأولوية لها على ساحل المتوسط الشرقيّ. 
والفرنسيون مضوا في هذا الإتجاه تماماً: دولة لبنانية تتوزّع فيها المقاعد النيابية حصصاً بين الطوائف الدينية، على منوال مجلس الإدارة في متصرفية جبل لبنان، إنما دولة مركزية حتى النخاع، سواء من خلال جمع الأقضية، ذات التاريخ العثماني، في عدد من المحافظات، لربطها أكثر بالمركز، أو من خلال إلغاء مجلس الشيوخ في البرلمان اللبناني بعد نصف العام على نصّ الدستور عليه. 
بيد أن الدعامة الأساسية لهذه الصيغة المركزية كانت توسع بيروت. فالبلد الصغير الذي ينظر له الموارنة على أنه استمرارية لجبل لبنان، هو برأس ساحلي ضخم: بيروت، المدينة التي كانت، في التاريخ العثماني المتأخر، مركزاً لولاية تحمل اسمها، وخارج متصرفية جبل لبنان. 
التعامل مع الطوائف كما لو انها إثنيات كاملة خطأ كبير، مثلما هو التعامل معها كما لو كانت علاقات روحية وسياسية فقط، وتجاهل البعد الإثني في كل منها 
في الكثير من النقاشات والمماحكات حول المركزية واللامركزية والفدرالية يجري السهو عن كل هذا: سوريا ظلّت كياناً برأسين، دمشق وحلب، حتى بعد طمس التجربة الفدرالية فيها، ولبنان على كل تصدّعاته المجتمعية وانشطاراته الإحترابية، هو بلد صغير برأس كبير هو بيروت. 
إنما هو رأس كبير يتخطى بيروت الإدارية نفسها منذ ما قبل الحرب، وبشكل ظل ينتفخ ويتوسع في ظل الحرب وطيلة العقود التي تفصلنا عنها. 
بالإمكان اذاً الحديث عن مدينة كبرى، أو تجمع مدن متداخلة مع بعضها البعض، تضم الأكثرية السكانية في لبنان. في نفس الوقت، عندما يتعلق الأمر بانتخابات نيابية أو بلدية، يحتاج أكثر هؤلاء، سواء كانوا يقطنون بيروت الإدارية، أو المدن والضواحية الامتدادية لبيروت، للتوجه إلى "مناطق تحدّرهم" وقراهم، ما دام الانتخاب يتم على أساس سجل القيد، وليس على أساس مكان السكن. 
للسبب عينه، يبدو الكثير من الكلام، سواء حول اللامركزية أو الفدرالية، في لبنان، أسير حلقة مفرغة. طالما هو لا يتعرّض لهذا المعطى الأساسي: بلد صغير برأس لم ينفك يتوسع، من دون أن يكون لأكثرية سكان هذا المدى المديني، "ميغا بيروت" حق الانتخاب على أساس السكن. ما يحكم على غالبية مواطني البلد بفصام أساسي يعطّل حيّزاً كبيراً من آليات صياغة الإرادة الشعبية ويضيّق مجال التمثيل والمشاركة. 
عدم الانطلاق من واقع "بلد صغير برأس كبير" كان كفيلاً بتقويض كل الدعوات لتنشيط مطلب "اللامركزية". زادت هلامية شعار "اللامركزية" وصار الكل يردّده بلا طعم أو لون. في المقابل، عاد شعار "الفدرالية" ليجرّب حظّه، على الطريقة اللبنانية، مرة جديدة. رغم ان من يطرح شعار الفدرالية يكابر هو الآخر على نفس الإشكالية. يرسم خرائط مشتهاة للغد الفدرالي، متغافلا على حقيقة كون اكثرية سكان البلد متركزين جنب بعضهم البعض في مسافة لا يزيد قطرها عن 20 كلم! 
ولسان حال يطرح الفدرالية أنه لا يفترض أن يحرّم الخوض فيها أو التداعي لها. بيد أن "التابو" الفعلي اليوم لم يعد هنا، بل يتصل بأنّ سؤال "من المسؤول عن الانهيار" مرشّح لأن يتخذ بعداً طائفياً صميماً أكثر فأكثر. 
من أوهم نفسه بأن الناس كانت، قبل عام ونصف، تتخفف من عباءات الطائفية، كمن يوهم نفسه بأنه يمكن أن يوجد حلاً نهائيا للنزاع بين الطوائف، من خلال الفدرالية على أساس ديني. 
في الحالتين، تجري محاولة طمس هذا السؤال الخطير الذي يعتمل في صدور كثيرين، والمتصل بتحديد الطائفة المسؤولة عن الانهيار. وكل رهط يجنح، خلسة، أو جهاراً، إلى توجيه سهامه الاتهامية، للطائفة المقابلة. 
الطائفية تعني أيضاَ تطييف سؤال "المسؤول عن الإنهيار". لا يمكن تفكيك الصاعق التفجير لهذا السؤال الجوفيّ من خلال تصور تسطيحي يرى الى الطائفية كمجرد أضاليل تبثها "الطبقة الحاكمة" ولا من خلال تصور يبالغ في تقدير "التماسك المجتمعي" داخل كل طائفة، مستدلاً على ذلك من خلال ضعف "التماسك الاجتماعي" العام. تهلهل الاخير لا يعني أن الطوائف في داخلها متماسكة لا تنتظر الا الحكم الذاتي لنفسها. وما ينوب عن تماسكها اليوم هو محاولة رمي وزر الكارثة في كل منها على الطائفة المقابلة لها، بشكل أو بآخر. 
يساق أساساً طرح الفدرالية في لبنان إنطلاقاً من مدرسة ترى في الفدرالية حلا مناسباً للنزاعات الإثنية. لكن المشكلة أن الطوائف هي، في الموضوع الإثني، "ما بين بين". هي اثنيات غير مكتملة، ومتفاوتة في درجة الإثنية فيما بينها، ومن المعايير هنا التفاوت في سهولة تحولك من طائفة إلى أخرى. يمكن لماروني أن يتحول إلى شيعي في فترة ضئيلة مثلا، لكنه لا يمكنه ان يصير درزياً. وحتى لو غير مذهبه إلى الكنيسة الأرمنية دينياً، فإنه لن يتحول إلى أرمني بنفس السرعة، فاللغة الأرمنية معطى هوياتي أساسي هنا، وكذلك أواصر القربى. وهذا غيض من فيض. التعامل مع الطوائف كما لو انها إثنيات كاملة خطأ كبير، مثلما هو التعامل معها كما لو كانت علاقات روحية وسياسية فقط، وتجاهل البعد الإثني في كل منها. الطوائف إثنيات غير مكتملة، وكثيرا ما تعامل نفسها كما لو كانت تشبه الطبقات الاجتماعية. فترى أن الطبقة الأخرى، أي الطائفة المقابلة، تأكل ما يعود لها هي. في الفدرالية بالشكل المتداول لبنانياً، وهمٌ في المقابل: بأنه يمكن لكل طائفة، اذا ما عزلت نفسها كانتونياً عن الأخرى، ان تكتفي بصحنها. المشكلة، ان الطوائف لا تكون طوائف الا بالنظر إلى ما في صحن الملة الأخرى! فالطائفية وجود تلصّصي بامتياز، والتلصّص فيها له الأولوية على القوقعة. 
كاتب لبناني